سورة البقرة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


قلت: أماني: جمع أمنية، وهي في الأصل: ما يُقَدِّرُهُ الإنسان في نفسه من مُنى إذا قدَّر، ولذلك تطلق على الكذب، وعلى ما يتمنى وما يقرأ، قاله اليضاوي. والاستثناء منقطع، أي: لكن أكاذيب، ويقال: تمنى الرجل، إذا كذب واختلق الحديث، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: (والله ما تَمنَّيْتُ ولا تَغَنَّيْتُ منذُ أَسْلَمْتُ).
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وَمِنْهُمْ} أي: من اليهود عوام {أُمِّيُّونَ} لا يقرؤون الكتاب ولا يفهمونه، لكن يسمعون من أحبارهم {أَمَانِيَّ} كاذبة، وأشياء يظنونها من الكتاب، ولا علم لهم بصحتها، كتغيير صفته صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، أو مواعيد فارغة، ومطامع خاوية، سمعوها منهم، من أن الجنة لا يدخلها إلا هم، وأن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، وغير ذلك من أمنيتهم الفارغة وأمانيهم الباطلة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن المنكرين على أهل الخصوصية ثلاث فرق: أهل الرئاسة المتكبرون، والفقهاء، المتجمدون، والعوام المقلدون، يصدق عليهم قوله تعالى: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني}؛ إذ لا علم عندهم يُميزون به المحق من المبطل، وإنما هم مقلدون، فوزرهم على مَن حرمهم بركة الاعتقاد، وأدخلهم في شؤم الانتقاد، ولقد أحسن ابن البنا حيث قال في شأن أهل الإنكار.
واعلمْ رعاكَ اللّهُ مِنْ صَديقِ *** أنَّ الورَى حَادُوا عن التحقيق
إذْ جَهِلُوا النفوسَ والقلوبَ *** وطلبُوا مَا لم يكُنْ مَطلُوبَا
واشْتَغَلُوا بعَالَمْ الأبدانِ *** فالكلُّ نساءٍ منْهمُ ودَانِ
وأنكَرُوا مَا جَهِلوا وزَعموا *** أنْ لَيسَ بعدَ الجسمِ شَيْءٌ يُعلمُ
وكفَّرُوا وزندقُوا وبدَّعُوا *** إذَا دَعَاهُم اللَّبِيبُ الأوْرَعُ
كلٍّ يرى أنْ لَيسَ فوقَ فَهْمِهِ *** فَهْمٌ ولاَ عِلْمٌ وراءَ عِلْمِهِ
مُحْتَجِباً عَنْ رؤيةِ المَراتبْ *** عَلّ يُسْمَى عَالماً وَطالبِ
هَيْهَاتَ هذا كُلَّه تقْصِيرُ *** يأنَفُهُ الحَاذقُ والنَّحْرِيرُ


قلت: {ويل}: كلمة يستعملها كل واقع في هلكة، وأصلها العذاب والهلكة، وهو في الأصل مصدر لا فعل له، وسوغ الابتداء به الدعاء، وقال أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الويلُ وادٍ في جَهنَّم» لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} تحريفاً لكتاب الله، {وَيقُولُونَ هَذَا مِنْ عند الله} خوفاً من أن تزول رئاستهم، وينقطع عنهم ما كانوا يأخذونه من سفلتهم، نزلت في أحبار اليهود لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، خافوا أن تزول رئاستهم، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإسلام، وكانت صفة النبي صلى الله عليه وسلم: «حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، ربعة»، فغيروها، وكتبوا: طوالاً، أزرق، سبط الشعر، {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}، ويأخذون من سفلتهم، فهو وإن كان كثيراً في الحسن فهو، بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الأليم، قليل.
الإشارة: ينزجر بهذه الآية صنفان: أحدهما: علماء الأحكام، إذا أفتوا بغير المشهور، رغبة فيما يقبضون على الفتوى من الحطام الفاني، وكذلك القضاة إذا حكموا بالهوى، رغبة فيما يقبضون من الرشا، أو يحصلونه من الجاه، {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} الثاني: أهل الرئاسة والجاه من أولاد الصالحين وغيرهم، فإنهم إذا رأوا أحداً قام بولاية أو نسة خافوا على زوال رئاستهم، فيحتالون على الناس بالتعويق عن الدخول في طريقته، فيكتبون في ذلك سفسطات وترهات، يُنفِّرون الناس عن اتباع الحق، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التّوبَة: 32].


قلت: {بلى}: حرف جواب كنعم، والفرق بينهما أن {بلى} لا يقع إلا في جواب النفي ويصير إثباتاً، تقول: ألم يأت زيد؟ فتقول: بلى. أي: أتى، ومثله: {قالوا لن تمسنا النار} فقال تعالى: {بلى} أي تمسكم، بخلاف نعم؛ فإنها لتقرير ما قبلها نفياً أو إثباتاً، فإذا قيل: ألم يأت زيد؟ فقلت: نعم، أي لم يأت، وإذا قيل: هل أتى زيد فقلت: نعم، أي أتى. وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
نعَمْ لتقرير الذي قبلها *** إثباتاً أو نفياً كذا قرَّرُوا
بلى جواب النفي لكنه *** يصير إثباتاً كذا حرَّرُوا
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وَقَالُوا} أي: بنو إسرائيل في أمانيهم الباطلة: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} أربعين يوماً مقدار عبادة العجل، ثم يخلفنا فيها المسلمون. قال الحقّ جلّ جلاله: {قُلْ} لهم يا محمد: {أَتَّخَذْتُمْ} بذلك عهداً عند الله {فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}- {بَلَى} تمسكم النار وتخلدون فيها؛ لأن {مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} أي: كفراً ومات عليه، {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي: أحدقت به، واستولت عليه، {فأوْلَئِكَ أَصْحَابَ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}- {والذين آمنوا} بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم {وعلموا} بشريعته المطهرة الأعمال {الصالحات} {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالدُونَ} هذه عادته تعالى؛ إذا ذكر فريقاً شفع بضده ترغيباً وترهيباً وبالله التوفيق.
الإشارة: اعلم أن كثيراً من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء، ويُطلقون عنان أنفسهم في المعاصي والشهوات، ويقولون: سمعنا من سيدي فلان يقول: مَن رآنا لا تمسه النار. وهذا غلط وغرور، وقد قال- عليه الصلاة والسلام- لابنته: «يا فاطمةَ بنتَ مُحمَّد، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شيئاً، اشترِيِ نفسك من الله» وقال للذي قال: ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة فقال له: «أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرةِ السُّجُود» نعم، هذا المقالة: إن صدرت من ولي متمكن مع الله فهي حق، لكن بشرط العمل ممن رآه بالمأمورات وترك المحرمات، فإن المأمول من فضل الله، ببركة أوليائه، أن يتقبل الله منه أحسن ما عمل، ويتجاوز عن سيئاته، فإن الأولياء المتمكنين اتخذوا عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده؛ وهو أن من تعلق بهم وتمسك بالشريعة شفعوا فيه.
والغالب على مَن صَحِبَ أولياء الله المتمكنين- الحفظ وعدم الإصرار، فمن كان كذلك لا تمسه النار، وفي الحديث: «إذَا أحَبَّ اللّهُ عَبْداً لَمْ يضرُّه ذَنْب»، يعني: يُلهم التوبة سريعاً، كما قيل لأهل بدر: «افْعلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرتْ لَكُم». ولا يتخذ عند الله العهد إلا أهل الفناء والبقاء، لأنهم بالله فيما يقولون، فليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار، وأما من لم يبلغ هذا المقام فلا عهد له؛ لأنه بنفسه، فمن تعلّق بمثل هذا فهو على خطر، وبالله التوفيق.
قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة}، من اقتنى حب الدنيا أحاطت به أشغالها وعلائقها، فهو في نار القطعية مقيم، أحاط به سرادق الهموم والأكدار، تلدغه عقارب الشكوك والأغيار، بخلاف من أشرفت عليه أنوار الإيمان، وصحب أهل الشهود والعيان، فإنه في روح وريحان وجنة ورضوان، متعنا الله بذلك في الدارين. آمين.

10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17